ماذا رأى أبي ؟

Desert and Sunset
Desert and Sunset

وقف ينظر إلى الأفق بعينين ضيقتين، نظرت إلى حيث ينظر، لا شيء يلوح في الأفق، أذكر ذلك اليوم كما لو كان بالأمس. كانت الشمس قد شارفت على المغيب حينما خرجت من الخيمة لأنضم إلى أبي في ”النوالة“ حين وجدته واقفا ينظر بخشوع وهدوء إلى الأفق كمن ينتظر شيء أن يظهر، باستغراب وفضول كنت أقلب نظري بينه وبين الأفق، ترى هل ينتظر بلال الراعي أو لعله سمع صوت سيارة Land-rover الخافت قادمة من بعيد. أردت بشدة أن أستوعب الأمر لكني كنت صبيا حينها، فالذي كان ينظر إليه أبي لم يكن أبدا في الأفق بل على العكس تماما لقد كان ينظر إلى حيث لا تستطيع عيناه أن تستديران، نعم، كان ينظر إلى مكان ما في ذاكرته، لقد فارقت روحه جسده الشاخص في الأفق وغادرتني إلى مكان وزمان مختلفين، ثم فجأة ودون سابق إنذار تحرك أبي وهرول إلى حيث توسط النوالة و جلس متربعا في مجلسه المعتاد وبدأ في صب الشاي، جلست بجانبه أنتظر أن يفصح لي عن ماذا كان يرى حين قدّم لي كأس الشاي وهو يبتسم.

مرت السنين وقد غادرتنا روح أبي لكن هذه المرة بلا رجعة. كنت في رحلة إلى البادية مع الأصحاب، حين وقفت أراقب مغيب الشمس وفجأة، توقف الزمن، لقد رأيت شيئا غريبا، ضيقت عيناي قليلا كأنما ذلك يُحسن من حدة البصر، رأيت خيال رجل أسمر يقف بعيدا في جلباب أحمر قاتم يراقب المغيب، تسمرت في مكاني أنظر إليه بسرور غريب، إنه أبي، تذكرت قسمات وجهه القاسية وتلك النظرات الطيبة التي لطالما بعثت في نفسي إحساس بالفخر. غابت الشمس وراء الأفق وزحف الظلام شيئا فشيئا ليبتلع خيال أبي بحنان، حينها فقط انتبهت لنداء أحد الرفاق يخبرني أن الشاي جاهز. هرولت إلى حيث تحلق الرفاق وجلست. ناولني أحدهم كأس الشاي. احتسيت منه رشفة وأنا أبتسم و قد غمرتني السعادة.